صفاقس في ظل تداعي بناها الأساسية وتفاقم أزمات المجتمع المتحضر بها بطالة وعطالة فقر وتفاوت اجتماعي وصراع طبقي وعنف ودعارة وحسب معطيات رقمية أخطأت وزارة عدل المخلوع في نشرها ذات مرة.. تصاعدت معدلات الجريمة بأنواعها، ما أهلها لتصبح المدينة الأولى إجراما وبوأها لقب "شيكاغو" التونسية...
بعد أن كانت مثالا للتعايش السلمي والوئام المدني على الأقل إلى حدود ثمانينات القرن الماضي قبل أن تصبح جهة مستهدفة بمقاصد الإنهاك التنموي والاستثناء الاستثماري والتخريب المبرمج لبناها الاقتصادية والاجتماعية وحتى القيمية وفق مزاج ديكتاتورية بن علي التي اختارت" تشييئها" تنمويا وتهميشها اقتصاديا و"تفتيتها" اجتماعيا بعد أن شك بن علي في ولاءات "الصفاقسية " الذين وجهت لهم تهم المعارضة السياسية ولعنة النضال العمالي ونزعات الاستقلالية بدعوى التفوق الاقتصادي خاصة في أعقاب الأزمة الناشئة مع الخبير الاقتصادي الكبير ورجل السياسة الوزير السابق منصور معلى فيما عرف آنذاك بأزمة بنك تونس العربي الدولي على خلفية تصريحات الأخير النقدية لصحيفة "لوموند" حول المنوال التنموي التونسي وخيارات تونس الاقتصادية وكانت تلك أولى خيوط اللعبة التي حيكت ضد "شنغاي العربية " كما أطلق عليها ذات يوم،و قد ازداد طفح كيل الكراهية لصفاقس واهاليها من قبل المخلوع خاصة لما انتقلت قيادة حركة النهضة إلى واحد من أبناء الجهة بعد أن طالت الملاحقات قيادات الحركة الآخرين الذين شرد بعضهم وزج ببقيتهم في غياهب السجون. هذا دون نسيان معطيات الشعوذة التي نبهت المخلوع من إمكانية اغتياله من قبل احد "الصفاقسية".
أفول نجم حاضرة الحرف والصنائع
قديما دعا الشاعر لصفاقس وامتدحها كما نقله ابن بطوطة في رحلته بقوله "سقيا لأرض صفاقس ذات المصانع والمصلى.." وفي ذلك الدعاء إشارة واضحة إلى أن امتهان أهل صفاقس الصناعة والحرف عادة قديمة بلغت حد الجبلة وهكذا استمرت عبر التاريخ لتتأسس بين أهاليها كما هو معروف عقلية العمل الجاد وتترسخ بينهم روح بعث المشاريع وتنويع الاستثمار. واليوم وبلغة الأرقام يمثل قاطنو جهة صفاقس أكثر من 938 ألف ساكن أي ما يعادل 10 بالمائة من سكان البلاد التونسية على مساحة جملية تبلغ 7 آلاف و645 كلم مربع. ويبلغ عدد الوحدات الإنتاجية الصناعية التي تشغل 10 عمال فأكثر حوالي 700 مؤسسة أي ما يمثل 15 % من جملة المؤسسات الوطنية وهي تشغل حوالي 320 ألف شخص من القوى العاملة أي ما يناهز 10 % من اليد العاملة على صعيد القطر التونسي، عدد المؤسسات في صفاقس لم يتغير طيلة حكم المخلوع رغم أفول مؤسسات وإفلاس أصحابها من جهة ورغم استحداث مؤسسات أخرى وبعث مشاريع جديدة من ناحية أخرى وهو أمر يعكس حالة الركود وانعدام التطورعلى صعيد المؤشرات التنموية، إذ لم تنشأ بالجهة وحدات صناعية ذات ثقل اقتصادي كبير أو طاقة تشغيلية واسعة ذات بال باستثناء الاستكشافات الكبرى في قطاع المحروقات التي أثبتت أن الجهة تعوم فوق حقول النفط وجيوب الغاز خاصة بسواحل قرقنة وخليج قابس وحتى هذه الوحدات الإنتاجية من المحروقات لم تحقق واحة استثمارية تنموية متكاملة تشع على محيط المناطق المتاخمة لها وهو ما كان سببا لتعدد الاضرابات والاعتصامات من الأهالي ولا سيما فيما يعرف بأزمة بيتروفاك بقرقنة وأزمة بريتش غاز بقرقور والمحرس وغيرها من المناطق المجاورة على خلفية مطالب اجتماعية تطالب بنصيب الأهالي من تلك الخيرات الباطنية وتطويق أضراراستخراجها من باطن أراضيهم خصوصا وأن هاتين الشركتين الدوليتين العابرتين للقارات المستثمرتين في تلك الحقول تمتعتا بعقود استنزافية غير عادلة فيما يعتقد المحتجون...كل هذا رغم أن حقول صفاقس تساهم بما نسبته 80 % من الإنتاج الوطني من الغاز الطبيعي و25 % من الإنتاج الوطني للنفط. وضع متناقض إذا ما علمنا أن جهة صفاقس المفترضة جهة صناعية على الورق وجهة مليونية ديمغرافيا رغم التلاعب المتكرر في الإحصاء تأخر فيها تعمم شبكة الغاز المنزلي لتبريرات واهية ومجهولة.
وقد حرصت السياسات السابقة على بناء ستار حديدي شائك أمام آفاق الاستثمار الاقتصادي الأجنبي المباشر وغير المباشر عبر تدابير بيروقراطية أدواتها التعطيل والتضييق والخنق والتخويف والتشكيك في جدوى الانتصاب الاستثماري بمختلف أنحاء صفاقس والجهات المجاورة وبهذا لا تمثل الجهة نقطة استقطاب حيوي ومشجع للرسامالية الأجنية المتوافدة إلى بلادنا التي لم تمثل نسبتها سوى 3.8 % من المؤسسات ذات المساهمة الأجنبية وحسب معطيات دقيقة توفرت لـ"الصباح "فإن حجم الاستثمار بصفاقس لا يتعدى 1.4 % وطنيا لأسباب وعوامل مختلفة كالادعاء بأنها جهة تتميز بارتفاع مستويات التلوث التي تتجاوز المعايير العالمية في هذا الصدد، علاوة على تداعي البنية الطرقية بها وضعف شبكة النقل والشرايين اللوجستيكية بها نظرا لتداعي البنية الأساسية الصناعية والحيوية وغياب الفضاءات الترفيهية الفندقية والسياحية وكذلك غياب الكفاءات البشرية والمهارات المتخصصة يحدث هذا في المدينة الجامعية الثانية بعد العاصمة بواقع 20 مؤسسة جامعية تستوعب أكثر من 43 ألف طالب في مختلف الاختصاصات العلمية والهندسية والتكنولوجية والإنسانية ذات الموارد البشرية المتفوقة. هذا الواقع أفرز تراجعا كبيرا لمردودية ميناء صفاقس التجاري ومطار صفاقس طينة الدولي اللذين قزم دورهما في حركة المبادلات التجارية في مقابل تضخيم دورميناءي رادس وسوسة ومطار المنستيرإجراءات ظالمة زادها قرار نقل الإدارة الجهوية للديوانة إلى ولاية سوسة مع ترفيع التكاليف والرسوم الديوانية بميناء صفاقس فيما أطلق عليه "نظام الخلاص بصفاقس RS "، وهو ما اضطر أغلب تجار صفاقس إلى استقدام مستورداتهم عبر مينا ءي سوسة ورادس كما أن عددا هاما من رجال الأعمال أصيلي صفاقس حولوا وجهاتهم الاستثمارية من صفاقس إلى جهات أخرى وخاصة ولايات تونس الكبرى فيما يعرف- تهكما -بموسم الهجرة إلى العاصمة...وضع تراجع معه دور ميناء صفاقس التجاري إذ لا تتجاوز نسبة التصدير منه بمعية ميناء الصخيرة للمحروقات سوى 30% وهي نسبة ضعيفة وضئيلة إذا ما اعتبرنا أن النسبة الأرفع في النشاط التجاري للميناءين تستأثر بها المحروقات.
مناطق صناعية غير مجدية
كان انقراض المنطقة الصناعية بودريار 2 وتحولها من واجهة انتاجية إلى واجهة عرض تجاري مؤشرا خطيرا لاندراج صفاقس ضمن مخطط رهيب أذهب عنها كل خصائص القطب الاقتصادي ولاسيما الصناعية التي عرفت بها "مدينة الصنائع" كما كانت تسمى فقد أطبق على الجهة بواسطة بوابتين رئيسيتين للتجارة الموازية شمالا وجنوبا بعد إنشاء أسواق المنتجات الصينية المستقدمة في الحاويات عن طريق الطرابلسية ومن اختارالتعاطي معهم وبيع ذمته وأشياء أخرى.. فكانت المنطقة العشوائية الحرة بالجم شمالا والمنطقة المشابهة لها ببنقردان وكان ذلك إيذانا باضمحلال المؤسسات العائلية الصفاقسية الصغرى والمتوسطة التي ميزت الجهة منذ عقود حيث لم تصمد أمام الأسواق الموازية ذات الأسعار المنخفضة فكان أن تحولت الأسواق والشوارع الصفاقسية إلى مرتع لنشاط ترويجي غريب عرف "بتجارة الشنطة" وللباعة المتجولين المروجين لمنتجات صينية بل وحتى وطنية وبأسعار زهيدة. وبهذا عانقت عديد الوحدات وأصحابها الإفلاس المبرمج وتحولت أغلب المصانع والوحدات الحرفية إلى مساحات عرض تجاري بعد أن انخرط الجميع في لعبة الإثراء السريع طوعا أو كرها وفق المنهج الطرابلسي الصاعد منذ بداية أزمة التسعينات الخانقة. وفي ظل تلك الأزمة أنشأ الارتجال التنموي مناطق صناعية غير ذات جدوى أو مردودية بفعل أنها أنشأت في مناطق غير ذات أولوية على غرار منطقة طينة التي أنشأت سنة 1998 والتي مازالت منقوصة الاستغلال، هذا فضلا عن عقلية الباعث الصفاقسي الصغير الرافض للاستثمار بعيدا عن مركز المدينة وهكذا باستثناء منطقة الغرابة وعقارب لم تنشأ بصفاقس خلال حكم المخلوع مناطق صناعية ذات أولوية تستقطب رؤوس الأموال من صفاقس أو الولايات المجاورة أومن الخارج لتنمية النشاط الصناعي والحركة الإنتاجية واليد العاملة أو استحداث مواطن الرزق للعمالة الوافدة من الجهات المجاورة والتي تندرج قطعا لدى انسداد السبل في تلافيف الأزمة الاجتماعية التى رفعت مستويات الجريمة خاصة بتلك الأحياء الحزامية الفقيرة ذات الكثافة السكانية العالية الناشئة في أطراف المدينة والتي يفوق عددها 10 ويقطن بها أكثر من 181 ألف نسمة وهو عدد يفوق سكان ولاية قبلي وقطعا تفتقد تلك الأحياء إلى ضرورات المستوى الأدنى للعيش الكريم فيما ذهبت إليه الباحثة أسماء البقلوطي ضمن الدراسة التي أعدته الاستراتيجيا صفاقس 2 التي أكدت أن تلك الأحياء يقطنها بالأساس مواطنون قدموا في الغالب من أرياف سيدي بوزيد والقصرين والقيروان نتيجة إخلالات عدم التوازن الجهوي ليصطدموا بواقع مرير تتبخر معه أحلامهم في تحسين ظروف العيش وتتأخر معه عجلة التنمية بصفاقس نتيجة تفاقم الأزمات الاجتماعية وصعوبات الاندماج بتلك مجتمعات النازحة. فضلا عما أثبتته تلك الدراسة من أن تكاثف سكان تلك الأحياء وتطويقها للمشاريع المستقبلية بالولاية يقف عائقا كبيرا أمام تطوير تلك المشاريع والمؤسسات على غرار مطار طينة الدولي ومشروع تبرورة الحالم. أما القطب التكنولوجي الناشئ منذ 2001 فلم تكتمل مكوناته إلى حد الآن بالقياس إلى الأقطاب الناشئة قبله وبعده في الولايات الأخرى ولم تشهد مقاسمه انتصابا لمؤسسات اقتصادية ذات مردودية أو كفاءة تستفيد من تحفيزاته العلمية أو الاستثمارية.
صابر فريحة
المصدر:الصباح
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire